الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} اختلف المفسرون في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره: إني رافعك إلي ومتوفيك، يعني بعد ذلك.وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: مميتك. وقال محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وَهْب بن مُنَبِّه، قال: توفاه الله ثلاث ساعات من النهار حين رفعه الله إليه. قال ابن إسحاق: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه. وقال إسحاق بن بشر عن إدريس، عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام، ثم بعثه، ثم رفعه. وقال مطر الوراق: متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير: توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ] [الأنعام: 60] وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] [الزمر: 42] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -إذا قام من النوم-: "الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ"، وقال الله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} إلى قوله [تعالى] {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 156 -159] والضمير في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائد على عيسى، عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلّهم؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، حدثنا الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: "إنَّ عِيسَى لمَْ يَمُتْ، وَإنَّه رَاجِع إلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقَيامَةِ". وقوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: برفعي إياك إلى السماء {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهكذا وقع؛ فإن المسيح، عليه السلام، لما رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورَد على كل فريق، فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة، ثم نَبَع لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة -التي هي الخيانة الحقيرة- وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصَلّوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت ما يزيد على اثنى عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة المَلْكِيَّة منهم. وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيَّدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفار، عليهم لعائن الله. فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق -كانوا هم أتباع كُل نبي على وجه الأرض- إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي، خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أمته، الذين يزعمون أنهم على ملّته وطريقته، مع ما قد حَرّفوا وبدلوا. ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله بشريعته شريعة جميع الرسل بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائما منصورًا ظاهرا على كل دين. فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميعُ الدول، وكسروا كسرى، وقَصروا قيصر، وسلبوهما كُنُوزَهما، وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم، عز وجل، في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الآية [النور: 65] ولهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وأَجْلَوهم إلى الروم، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق المصدوق أمَّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيؤون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مَقْتلة عظيمة جدا، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا. ولهذا قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: يوم القيامة {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وكذلك فعل تعالى بمن كفر بالمسيح من اليهود، أو غلا فيه وأطراه من النصارى؛ عَذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخْذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عَذابُهم أشد وأشق {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34]. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ثم قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي: هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله الله تعالى، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 34-35] وهاهنا قال تعالى.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} يقول تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب {كَمَثَلِ آدَمَ} فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب، عَزّ وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]. وقال هاهنا: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: هذا القول هو الحق في عيسى، الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى -آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيانِ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أي: نحضرهم في حال المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي: نلتعن {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي: منا أو منكم. وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى حينقدموا فجعلوا يُحَاجّون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار وغيره. قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نَجْران، ستون راكبا، فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم، وهم: العاقب، واسمه عبد المسيح، والسيد، وهو الأيْهَم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس الحارث وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، وَيُحَنَّس. وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم، وهم: العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسْقُفهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تَنَصَّر، فعظمته الروم وملوكها وشرفوه، وبنوا له الكنائس وَمَوَّلُوه وأخْدَموه، لما يعلمونه من صلابته في دينهم. وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة جيدا، ولكن احتمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى [من] تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مَسْجِدَه حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرَات: جُبَب وأرْدية، في جَمَال رجال بني الحارث بن كعب. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق. قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، أو السيّد الأيهم، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة. تعالى الله [عن ذلك علوًا كبيرا] وكذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم: "هو الله" بأنه كان يحيي الموتى، ويُبْرئُ الأسقامَ، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله، وليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله، يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله. ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة، بقول الله تعالى: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا؛ فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ؛ ولكنه هو وعيسى ومَرْيَم وفيكل ذلك من قولهم قد نزل القرآن. فلما كلمه الحَبْران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسْلِمَا" قالا قد أسلمنا. قال: "إنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فأسْلِما" قالا بلى، قد أسلمنا قبلك. قال: "كَذَبْتُمَا، يمْنَعُكُمَا مِنَ الإسْلامِ دُعَاؤكُما لله ولدا، وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وأكْلُكُمَا الخِنزيرَ". قالا فمن أبوه يا محمد؟ فَصَمَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم، صَدْرَ سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تَكَلَّم ابن إسحاق على التفسير إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدَ المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صَغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم [قد] أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجعَ على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضًا. قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائْتُونِي الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين"، فَكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فَرُحْتُ إلى الظهر مُهَجّرا، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سلَّم، ثم نَظَر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيدة بن الجَرَّاح، فدعاه: "اخْرُجْ معهم، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ". قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة، رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خُدَيْج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر. وذكر بقيته بأطول من هذا السياق، وزيادات أخَر. وقال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة قال: جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تَفْعَلْ، فوالله إن كان نبيا فلاعناه لا نفلحُ نحنُ ولا عَقبنا من بعدنا. قالا إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال: "لأبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلا أمينًا حَقَّ أمِينٍ"، فاستشرفَ لها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قُمْ يَا أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحٍِ" فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أمِينُ هذه الأمَّةِ". [و] رواه البخاري أيضا، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة من طرق عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن صِلَة، عن حذيفة، بنحوه. وقد رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن صلَة عن ابن مسعود، بنحوه. وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن خالد، عن أبي قِلابة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أُمَّةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمَّة أبُو عبيدة بْنُ الْجَرَّاحِ". وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرَّقِّي أبو يزيد، حدثنا فُرَات، عن عبد الكريم ابن مالك الجزَري" عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو جهل: إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه. قال: فقال: "لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا، ولو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلا". وقد رواه الترمذي، والنسائي، من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم، به. وقال الترمذي: [حديث] حسن صحيح. وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصَّة وَفْد نَجْران مطولة جدًا، ولنذكره فإن فيه فوائدَ كثيرة، وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام، قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل، قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن سلمة بن عبدِ يَسُوع، عن أبيه، عن جده قال يونس -وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: "بِاسْم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ، مِنْ مُحَمَّدٍ الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف نَجْرانَ وأهْلِ نَجْرانَ سِلْم أَنْتُم، فإنِّي أحْمَدُ إلَيْكُمْ إلَهَ إبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ. أَمَّا بَعْدُ، فإنِّي أَدْعُوكُم إلَى عِبَادَةِ اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ، وأدْعُوكُمْ إلَى وِلايَةِ اللهِ مِنْ وِلايَةِ الْعِبَادِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ والسَّلامُ". فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه فَظعَ به، وذَعَره ذُعرًا شديدًا، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شُرَحْبيل بن وَداعة -وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدْعَى إذا نزلت مُعْضلة قَبْلَه، لا الأيهم ولا السِّيد ولا العاقب- فدفع الأسْقُفُ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شُرَحْبيل، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريمَ، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يُؤْمنُ أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي، وجَهِدتُ لك، فقال له الأسقف: تَنَحَّ فاجلس. فَتَنَحَّى شرحبيل فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران، يقال له: عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمْير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الأسقف: فاجلس، فتَنَحى فجلس ناحية. وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران، يقال له: جبار بن فيض، من بني الحارث بن كعب، أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه؟ فقال له مثل قول شُرَحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية. فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعًا، أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به، ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فَزعوا بالنهار، وإذا كان فزعُهم ليلا ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله -وطولُ الوادي مَسِيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، وعشرون ومائة ألف مقاتل. فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأيُ أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن ودَاعة الهمداني، وعبد الله ابن شُرَحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حُلَلا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان ابن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانا مَعْرفة لهم، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن، إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما، أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب -وهو في القوم-: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال عَليّ لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حُللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودا إليه. ففعلوا فسلموا، فرد سلامهم، ثم قال: "والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمرَّةَ الأولَى، وإنَّ إبْلِيسَ لَمَعَهُم" ثم ساءلهم وساءلوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا عِنْدِي فِيهِ شِيء يَوْمِي هَذَا، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ بما يقول لي رَبِّي في عيسَى". فأصبح الغد وقد أنزل الله، عز وجل، هذه الآية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى] الْكَاذِبِينَ} فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا، فكنا أول العرب طعن في عينيه ورد عليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك. فقال له صاحباه: يا أبا مريم، فما الرأي؟ فقال: أرى أن أحكمه، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا. فقالا له: أنت وذاك. قال: فلقي شرحبيلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال: "وما هو؟" فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا يَثْرِبُ عَلْيكَ؟" فقال شرحبيل: سل صاحبي. فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل: فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: "بِسْم الله الرحمنِ الرَّحِيم، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ -إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ- في كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ عَلَيْهِمْ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ، عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ ألْفُ حُلَّةٍ" وذكر تمام الشروط وبقية السياق. والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع؛ لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون]َ} [التوبة: 29]. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا بشر بن مهران، أخبرنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فَأَبَيَا أن يجيئا وأقَرَّا بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي بَعَثَني بالْحَقِّ لَوْ قَالا لا لأمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نارًا" قال جابر: فيهم نزلت {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} قال جابر: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب {وَأَبْنَاءَنَا} الحسن والحسين {وَنِسَاءَنَا} فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن عيسى، عن أحمد بن محمد الأزهري عن علي بن حُجْر، عن علي بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هند، به بمعناه. ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. هكذا قال: وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك. ثم قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي: هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عن هذا إلى غيره. {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أي: من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر، الذي لا يفوته شيء [سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا. ثم وصفها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف، نستوي نحن وأنتم فيها. ثم فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا وَثَنا، ولا صنما، ولا صليبا ولا طاغوتا، ولا نارًا، ولا شيئًا بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء: 25]. [وقال تعالى] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ثم قال: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال ابن جُرَيْج: يعني: يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة: يعني: يسجد بعضنا لبعض. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري، عند روايته من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن أبي سفيان، في قصته حين دخل على قيصر، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح، كما هو مُصَرّح به في الحديث، ولأنه لما قال هل يغدر؟ قال: فقلت: لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه: والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه: "بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران، وقال الزهري: هم أول من بَذَلَ الجزية. ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري؟ والجواب من وجُوه: أحدها: يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين، مَرّةً قبل الحديبية، ومرة بعد الفتح. الثاني: يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق: "إلى بضع وثمانين آية" ليس بمحفوظ، لدلالة حديث أبي سفيان. الثالث: يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. الرابع: يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [الكلام] في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى، وفي عدم الصلاة على المنافقين، وفي قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وفي قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [وَمَا أُنزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] أي: كيف تَدّعُون، أيها اليهود، أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى، وكيف تَدّعُون، أيها النصارى، أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر. ولهذا قال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}. ثم قال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون]َ} هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإنَّ اليهود والنصارى تَحَاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علْم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} أي: مُتَحَنفًا عن الشرك قَصْدًا إلى الإيمان {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا[قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] [البقرة: 135]. ثم قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَنْ بعدهم. قال سعيد بن منصور: أخبرنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وإنَّ وَليِّي مِنْهُمْ أبي وخَلِيلُ رَبِّي عز وجل". ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]. وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزُّبيري، عن سفيان الثوري، عن أبيه، به ثم قال البزار: ورواه غير أبي أحمد، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، ولم يذكر مسروقا. وكذا رواه الترمذي من طريق وَكِيع، عن سفيان، ثم قال: وهذا أصح لكن رواه وكيع في تفسيره فقال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره. وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي: ولي جميع المؤمنين برسله.
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يخبر تعالى عن حَسَدَ اليهود للمؤمنين وبَغْيهم إياهم الإضلال، وأخبر أنَّ وَبَالَ ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم. ثم قال تعالى منكرا عليهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي: تعلمون صدقها وتتحققون حقها {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه. {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر دينهم، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما رَدّهم إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية: يعني يهود، صَلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وكفروا آخر النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة، بعد أن كانوا اتبعوه. وقال العَوْفِي، عن ابن عباس: قالت طائفة من أهل الكتاب: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فَصَلّوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا. [وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك]. وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي: لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أي: هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات، وَإنْ كتمتم -أيها اليهود- ما بأيديكم من صفة محمد في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند الله، أي: يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: الأمورُ كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته، ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي: اختصكم -أيها المؤمنون- من الفضل بما لا يُحَد ولا يُوصَف، بما شرف به نبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به لأحمد الشرائع.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أي: من المال {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي: وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي: بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى ألا يؤديه. وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة، وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن عمرو السَّكُوني، حدثنا بَقِيَّة، عن زياد بن الهيثم، حدثني مالك بن دينار قال: إنما سمي الدينار لأنه دين ونار. وقال: معناه: أنه من أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار. ومناسب أن يكون هاهنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه، ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بنهُرْمُز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ [بَعْضَ] بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا. قَال : صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْت فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ . وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا . فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ} وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهَُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ، فَأَتَاه بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا. هكذا رواه البخاري في موضعه مُعَلَّقًا بصيغة الجزم، وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب، عن الليث به ورواه البزار في مسنده، عن الحسن بن مُدْرِك، عن يحيى بن حماد، عن أبي عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ثم قال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. كذا قال، وهو خطأ، لما تقدم. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: إنَّمَا حَمَلهم على جُحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حَرَج في أكل أموال الأمييّن، وهم العرب؛ فإن الله قد أحلها لنا. قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوا بهذه الضلالة، فَإن الله حَرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قوم بُهْت. قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن [أبي] صَعْصَعَة بن يزيد ؛ أن رجلا سأل ابن عباس، قال: إنا نُصِيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ؟ قال ابن عباس: فَتَقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إنهم إذا أدوا الجزية لم تَحل لكم أموالهُم إلا بِطِيب أنفسهم. وكذا رواه الثوري، عن أبي إسحاق بنحوه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا أبو الربيع الزهراني حدثنا يعقوب، حدثنا جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قال نبي الله [صلى الله عليه وسلم] كَذَبَ أَعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شِيٍء كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِلا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا الأمَانَةَ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالفَاجِرِ" ثم قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} أي: لكن من أوفى بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك، واتقى محارم الله تعالى واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيد البشر " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ "
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عهدهم الله عليه، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته الناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الدنيا الفانية الزائلة " أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ " أي: لا نصيب لهم فيها، ولا حظ لهم منها " وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أي: برحمة منه لهم، بمعنى: لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة " وَلا يُزَكِّيهِمْ " أي: من الذنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار " وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسر منها: الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة قال: علي بن مُدْرِك أخْبرَني قال: سمعت أبا زُرْعَة، عن خَرَشة بن الحُر، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قلت: يا رسول الله، من هم؟ خابوا وخسروا. قال: وأعاده رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثلاث مرات قال: "المُسْبِل، والمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكاذِبِ، والمنانُ". ورواه مسلم، وأهل السنن، من حديث شعبة، به. طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا إسماعيل، عن الحُرَيري، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن أبي الأحْمَس قال: لقيتُ أبا ذر، فقلتُ له: بلغني عنك أنك تُحدِّث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما إنه لا تَخَالُني أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه، فما الذي بلغك عني؟ قلتُ: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يَشْنَؤهم الله عز وجل. قال: قلته وسمعته. قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال: الرجل يلقى العدوّ في فئة فينصب لهم نَحْرَه حتى يقتل أو يفتح لأصحابه. والقومُ يسافرون فيطول سراهم حتى يَحنُّوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم. والرجلُ يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاهُ حتى يفرق بينهما موت أو ظَعْن. قلت: ومن هؤلاء الذين يشنأ الله؟ قال: التاجر الحلاف -أو البائع الحلاف -والفقير المختال، والبخيل المنان غريب من هذا الوجه. الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن جرير بن حازم قال: حدثنا عَدِيّ بن عدي، أخبرني رجاء بن حَيْوة والعُرْس بن عَمِيرة عن أبيه عَدِي -هَو ابن عميرة الكندي- قال: خاصم رجل من كِنْدةَ يقال له: امرؤ القيس بن عابس رَجلا من حَضْرمَوْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، فقضى على الحضرمي بالبينة، فلم يكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب الكعبة أرضى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيقتطِعَ بِهَا مَال أحَد لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال الجنة" قال: فاشهَدْ أني قد تركتها له كلها. ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي، به. الحديث الثالث: قال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو فيها فَاجِر، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ الله عَزَّ وجَلَّ وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ". فقال الأشعث: فيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني، فقدَّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيَّنة؟" قلتُ: لا فقال لليهودي: "احْلِفْ" فقلتُ: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [إلى آخر] الآية: أخرجاه من حديث الأعمش. طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن شَقِيق بن سلمة، حدثنا عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان" قال: فجاء الأشْعث بن قَيْس فقال: ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه، فقال: فيّ كان هذا الحديث، خاصمتُ ابن عمٍّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر لي كانت في يده، فجَحَدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيِّنَتُكَ أنَّها بِئْرُكَ وَإلا فَيَمِينُهُ" قال: قلتُ: يا رسول الله، ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري ؛ إنَّ خَصْمي امرؤ فاجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان" قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] . الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رشْدين عن زَبّان، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله تَعَالى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إلَيهِمْ" قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: "مُتَبَرِّئٌ مَنْ وَالِدَيهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا، ومُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ، وَرَجُلٌ أنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فكَفَر نعْمَتَهُمْ وتَبَرَّأ مِنْهُمْ". الحديث الخامس: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا هُشَيْم، أنبأنا العوّام -يَعني ابن حَوْشَبَ- عن إبراهيم بن عبد الرحمن -يعني السَّكْسَكي- عن عبد الله بن أبي أوْفَى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعْطَى بها ما لم يُعْطه، ليُوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} ورواه البخاري، من غير وجه، عن العوام. الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عذابٌ أليم: رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ -يَعْنِي كَاذِبًا- ورَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ". ورواه أبو داود، والترمذي، من حديث وكيع، وقال الترمذي: حسن صحيح.
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يخبر تعالى عن اليهود، عَليهم لعائن الله، أن منهم فريقا يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه ويُبَدِّلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد به، ليُوهِموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله، وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله؛ ولهذا قال: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال مجاهد، والشعبي، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} يحرفونه. وهكذا روى البخاري عن ابن عباس: أنهم يحرفون ويزيدون وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله. وقال وهب بن مُنَبِّه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف، ولكنهم يُضِلّونَ بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول. رواه ابن أبي حاتم، فإن عَنَى وَهْب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير، وزيادات كثيرة ونقصان، ووَهْم فاحش. وهو من باب تفسير المعبر المعرب، وفَهْم كثير منهم بل أكثرهم، بل جميعهم فاسد. وأما إن عَنَى كتب الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القُرَظِي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعوننا؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، أو أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي، ولا بِذَلِكَ أَمَرَنِي". أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الآية] إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فقوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله. أي: مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته. قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا -يعني أهل الكتاب- كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة:31] وفي المسند، والترمذي -كما سيأتي- أن عَديّ بن حاتم قال: يا رسول الله، ما عبدوهم. قال: "بَلَى، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ} عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ". فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام. إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام. فالرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم قيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق. وقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي: ولكن يقول الرسول للناسِ: كونوا رَبَّانيين. قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد، أي: حكماء علماء حلماء. وقال الحسن وغير واحد: فقهاء، وكذا رُوِي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، وعطية العوفي، والربيع بن أنس. وعن الحسن أيضا: يعني أهل عبادة وأهل تقوى. وقال الضحاك في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا: "تَعْلَمُون" أي: تفهمون معناه. وقرئ {تُعَلِّمُون} بالتشديد من التعليم {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} تحفظون ألفاظه. ثم قال: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مُقَرَّب {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: لا يَفْعَل ذلك؛ لأنَّ من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية،[النحل:36] وقال تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وقال [تعالى] إخبارًا عن الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29].
|